الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.سورة التغابن: .تفسير الآيات (1- 14): {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدئ كل شيء والقائم به، وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} أي فمنكم آتٍ بالكفر وفاعل له، ومنكم آتٍ بالإيمان وفاعل له، ويدل عليه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم. والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن؟ وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين. وقيل: هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن به.{خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة ثمّ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما، الجمال والبيان {وَإِلَيْهِ المصير} فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم {يَعْلَمُ مَا في السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور} نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعده قوله {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالف ولا تشكر نعمته.{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} الخطاب لكفار مكة {نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا وبال كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في العقبى.{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة {بِأَنَّهُ} بأن الشأن والحديث {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر {فَكَفَرُواْ} بالرسل {وَتَوَلَّواْ} عن الإيمان {واستغنى الله} أطلق ليتناول كل شيء ومن جملته أيمانهم وطاعتهم {والله غَنِىٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} على صنعه.{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ} أي أهل مكة، والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم {أَن لَّن يُبْعَثُواْ} (أن) مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا {قُلْ بلى} هو إثبات لما بعد (لن) وهو البعث {وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ} أكد الإخبار باليمين. فإن قلت: ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلت: هو جائز لأن التهديد به أعظم موقعاً في القلب فكأنه قيل لهم: ما تنكرونه كائن لا محالة. {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ} البعث {عَلَى الله يَسِيرٌ} هين {فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {والنور الذي أَنزَلْنَا} يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدي به كما بالنور {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فراقبوا أموركم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} انتصب الظرف بقوله {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو بإضمار (اذكر) {لِيَوْمِ الجمع} ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، كما ورد في الحديث، ومعنى ذلك يوم التغابن. وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} صفة للمصدر أي عملاً صالحاً {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ} وبالنون فيهما: مدني وشامي {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير}.{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي همًّا {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعن مجاهد: إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ} عن طاعة الله وطاعة رسوله {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فعليه التبليغ وقد فعل {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} أي إن من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقّونهم {فاحذروهم} الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعاً أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم {وَإِن تَعْفُواْ} عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها {وَتَصْفَحُواْ} تعرضوا عن التوبيخ {وَتَغْفِرُواْ} تستروا ذنوبهم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم. قيل: إن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا: تنطلقون وتضيعوننا. فرقوا لهم ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو..تفسير الآيات (15- 18): {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}{إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي في الآخرة وذلك أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم. ولم يدخل فيه (من) كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب وقد يخلو بعضهم عن العداوة {فاتقوا الله مَا استطعتم} جهدكم ووسعكم، قيل: هو تفسير لقوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] {واسمعوا} ما توعظون به {وَأَطِيعُواْ} فيما تؤمرون به وتنهون عنه {وَأَنْفِقُواْ} في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها {خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ} أي انفاقاً خيراً لأنفسكم. وقال الكسائي: يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم والأصح أن تقديره ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً} بنية وإخلاص، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء {يضاعفه لَكُمْ} يكتب لكم بالواحدة عشراً أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ} يقبل القليل ويعطي الجزيل {حَلِيمٌ} يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها {عالم الغيب} أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب {والشهادة} أي ما انتشر من ظواهر الخطوب {العزيز} المعز بإظهار العيوب {الحكيم} في الإخبار عن الغيوب، والله أعلم..سورة الطلاق: .تفسير الآيات (1- 6): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)}{يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادّاً مسد جميعهم. وقيل: التقدير يا أيها النبي والمؤمنون. ومعنى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ومنه: كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي. {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فِى قبل عدتهن} وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعهن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق {وَأَحْصُواْ العدة} واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، وخوطب الأزواج لغفلة النساء.{واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ} حتى تنقضي عدتهن {مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى، وفيه دليل على أن السكنى واجبة، وأن الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير ملك ثابت فيما إذا حلف لا يدخل داره. ومعنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر {وَلاَ يَخْرُجْنَ} بأنفسهن إن أردن ذلك {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} قيل: هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن. وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي الأحكام المذكورة {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى} أيها المخاطب {لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون.{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قاربن آخر العدة {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها {وَأَشْهِدُواْ} يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد {ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ} من المسلمين {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} لوجهه خالصاً وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر {ذلكم} الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} أي إنما ينتفع به هؤلاء {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد {يَجْعَلِ الله لَهُ مَخْرَجاً} مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص.{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ}. أي ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: «مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة».وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله» فما زال يقرؤها ويعيدها، ورُوي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال: «ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فقالت: نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية {وَمَن يَتَوَكَّلْ على الله} يكل أمره إليه عن طمع غيره وتدبير نفسه {فَهُوَ حَسْبُهُ} كافيه في الدارين {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} حفص أي منفذ أمره، غيره {بالغٌ أمرَه} أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَئ قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} رُوي أن ناساً قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الإقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت {إِنِ ارتبتم} أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} أي فهذا حكمهن.وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} عدتهن {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} والنص يتناول المطلقات والمتوفي عنهم أزواجهن. وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم: عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى {ذَلِكَ أَمْرُ الله} أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات {أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} من اللوح المحفوظ {وَمَن يَتَّقِ الله} في العمل بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ثم بين التقوى في قوله {وَمَن يَتَّقِ الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل {أَسْكِنُوهُنَّ} وكذا وكذا {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} هي (من) التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم {مّن وُجْدِكُمْ} هو عطف بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه والوجد: الوسع والطاقة. وقرئ بالحركات الثلاث والمشهور الضم. والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة، وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سكنى لك ولا نفقة» وعن عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السكنى والنفقة» {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} ولا تستعملوا معهن الضرار {لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج.{وَإِن كُنَّ} أي المطلقات {أولات حَمْلٍ} ذوات أحمال {فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفي ذلك الوهم {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من ظئرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية {فَئَاتُوهُنَ أُجُورَهُنَ} فحكمهن في ذلك حكم الأظآر، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافاً للشافعي رحمه الله {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ} أي تشاوروا على التراضي في الأجرة، أو ليأمر بعضكم بعضاً، والخطاب للآباء والأمهات {بِمَعْرُوفٍ} بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة. وقوله {لَهُ} أي للأب أي سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.
|